دوائر الحراســة
بقلم: السيد نجم
-1-
"إياك تجرى في الشارع..."
تقولها أمي دائما وهى ترصدني من عند باب الحجرة, تسد على فرجته الضيقة إلى الشارع. تقضى أكثر من نصف ساعات اليوم, من ليل أو نهار, داخل فراغ حلق الباب.. باب الجنة بالنسبة لي إذا غافلتها وفررت جريا إلى الشارع.
كنت انتهز فرصة أول إغفاءة وأول شردة, أعدو مهرولا وتستطيع أبدا أن تلحق بي. لا تملك سوى بعض كلمات السباب واللعنة, أتذكر جيدا أنها كانت تنطقها سريعة مضغومة من فرط اللهاث والإجهاد, فأضحك طويلا.
لا أنسى يوم أن ضقت منها ومن رائحة حلة المحشى الألمنيوم المتآكلة المنبعجة وهى معبأة بالأرز الذي فقد بياضة من فرط الخلطة جيدة الصنع. يوم أن تأكد لي, أنها لم تغف ولن تشرد, أراها تملأ حفانا من الخلطة, وبحنكة ترصه على ورقة المحشى, فلا تزيد عليه ولا تنقص منه, تبرمها في هدؤ وثقة, دون أن تنشغل بما يدها, فلا تسقط عينيها عنى.
تظل معلقة بي, مبحلقة نحوى, وأنا فاقد لوسيلة أتسلل بها من بين حدود حجرتنا الضيقة. وظللت أتقافز فوق السرير كما المعلق في مطاط سحري, وحتى ارتطمت شفتي العليا بالأرض عفوا.
ألقمت أمي الجرح بمطحون البن فورا, ثم مسحته بخلطة المحشى التي الهبتنى. التأم الجرح, لكنه ترك نتؤا بارزة لم ينبت فيها شعر شاربي الذي أهذبه كل صباح, وأن أحرص على بعثرة شعيرات منه, فوق الجزء الأجرد المشوه, ربما أخفيه.. هيهات.
-2-
"أحذرك من نسيان الواجب"
يرددها مدرس الحساب محذرا, وأنا أكره مادة الحساب بلا سبب أعرفه. أخال الأستاذ "عزمي", شبحا فظا وعبقريا, من فرط قسوته وقدرته على فك رموز وطلاسم المعادلات الحسابية.
كثيرا ما يخدع الرجل في بحلقتي المنتبه إليه أثناء إلقاء الدرس, ظنا منه أنني أفهم ما يثرثر به, فيسألني, أخيب ظنه, يتأكد له غبائي, فيضربني.
الأمر المؤكد الذي لا يعرفه العبقرى الفظ, أنني أتابع حركة شفتيه, ونطق لسانه الذي يلوك الكلمات بلا ثأثأة, وبغير تلعثم, فأشرد في البحث عن طريقة ما أشق بها جمجمته, لكي التقط ولو جزء ضئيل جدا من أمفوخه, ربما أجيد فك شفرة الحساب.
لا تعجزه الحيلة, نجح في أن يشغلني به وبالحساب, حتى بعد الحصة والى اليوم التالي, آخر كلماته في الحصة, يوجهها إلى أنا بالذات القابع في الركن البعيد من الفصل, ويكلفني بحل مسائل نصف كتاب المدرسة كواجب منزلي.
فلا أحل المسائل, ولا يرحمني المدرس من الواجب في اليوم التالي, حتى نهاية العام الدراسي, وأرسب, فلم يرحمني أبى من الضرب المبرح, حتى مل أبى من ضربي غير المجد.
بقيت الأرقام لعنة تلاحقني طوال حياتي. كلما حاسبني بائع, اكتشف غبائي في الحساب.. سرعان ما يكتشف البائع ضعفي وقلة حيلتي, فيطمع في ويغافلني. يشغلني الموضوع أكثر, يؤرقني طوال الليل, فأمسك بورقة صغيرة, أخط اسم مدرس مادة الحساب, أكتبه ألف مرة, وأمزق الورقة أربع الآف مرة.
-3-
"أوعى أشوفك معاها"
عندما قالتها "عزة" للمرة الأولى, شعرت بالافتخار والنشوى, فرحت.. حبيبتي تغار على, تخشى أن أتحدث إلى غيرها, فأتعلق بإحدى زميلات الكلية.
إن عدت وضبطتني أحادثهن, تزيد من تحذيرها بالكلمات وتضيف تحذيرا تعلمته من إصبعها السبابة ترشقه نحو عيني, مكررة لفظة "أوعى...".
رويدا بدأ أشعر بحصار هلامى غامض, لكنه قادر على أن يكبلني بحق. أغرقتني في أشيائها الصغيرة, كأن تعاتبني لأنني لم أنتبه إلى البروش الجديد الذي أرشقته على صدرها, تؤنبني على أنني لم التفت إلى لون أحمر الشفاه الذي غيرته بلون غامق وفاقع لا يناسبها, ومع ذلك لم أنتبه.
ودائما تنجح معي, إن حاولت تبرير فعلتها بالغيرة, وفعلتي بالانشغال بأمر هام.. تفلت انتباهي إلى أن البروش على شكل أول حرف من اسمي, وأن اللون الأحمر الغامق هو لونى المفضل.. فانتبه وأعتذر, واكتشف قلة حيلتي.
كثر عتابها واعتذاري من بعد, بمضي الوقت كفت عن العتاب وشعرت بشيء من السعادة, أسوأ ما يفعله الإنسان أن يعتذر امن يحب.
لم تدم السعادة طويلا, فقد حضرت يوم إعلان نتيجة آخر العام, وقد علقت في إصبعها الإبهام دبلة خطوبة.. بدت لامعة جدا, يبدو أنها علقتها في إصبعها بالأمس فقط. قلت لها:
"مبروك...."
لم تعاتبني ولم أعتذر.
-4-
"لا تتأخر..."
تقولها زوجتي صباحا وأنا في طريقي إلى العمل, وتقولها بعد الظهر وأنا في طريقي إلى المقهى. اعتدت التحذير, الذي لم اعتده حتى مضى كل تلك السنوات.. عينيها المحدقتين في حدة غير مبررة, فتبدو دائرتي عينيها وكأنها بلا جفون, وواسعة كعيني النمر.
قررت أن العب معها لعبة لا تشاركني فيها.. أن أكف السمع والإنصات, أوهمها بالانتباه والطاعة لكل ما تتفوه به وأنا في طريقي إلى الخارج.. ولا أسمع!
ولأنني عبرت مرحلة الشباب إلى الشيخوخة, المت بي حالة لا أعرف كنهها. فلم أعد استيقظ نشطا كل صباح, يغلبى النعاس والكسل, فتجدد مقولة نسيتها منذ زمن, يهددني بها هذه المرة رئيسي في العمل, فيستقبلني عند باب مكتبه محذرا:
"....لا تتأخر"
إلا أنه زاد عليها بكلمة لم تنطقها زوجتي, بتابع قائلا:
".........والا"
ولأنني موظف ميرى قديم وملتزم, أعلم تماما ما يعنيه الرجل.
طال انتظار الرجل وصبره على فعلتي غير الملتزمة بمواعيد العمل الرسمية, حتى وان كانت كل مهامي في اليوم أنفذها في نصف الساعة, يجب أن استلم مقعدي في العمل في الثامنة ولا أبرجة حتى الثانية بعد الظهر.
ذات مرة حاولت مسامرة المدير لإقناعه بعدم جدوى حضوري المبكر.. أخبرته بأن الشمس لن تكف عن دورانها لو لم أحضر لسنة كاملة وليس لنصف الساعة. لم يصبر طويلا, نفذ تهديده السابق بالخصم من راتبي يوما كاملا من راتب الشهر التالي.
ولأنني لا أجيد الحساب, ولا أحب الاعتذار, ولأن زوجتي لم تصدق سر الراتب المنقوص هذا الشهر.. اكتفيت بالصمت.. وان تمنيت بيني وبين نفسي أن تعاود عتابها القديم لي, وأن تتشاجر, وهو ما لم يحدث.
-5-
"ممنوع التدخين وأكل السمين والمسبك والحريف..وشرب القهوة..و.."
قالها الطبيب وأنا فاقد السيطرة على رأسي, الدوار براقص كل الأشياء من حولي. لم تعد الأشياء كما هي وكما أعرفها.. الأشياء مزدوجة في عيني, والأصوات تغلبها أصوات اللهاث المرتعدة في صدري, وكل ما انتبهت له, أمرا حازما:
"يجب أن تستريح"
لم يقل لي مما أستريح, ولم يوضح كيف؟؟
فلما طال انتظاري داخل غرفة الطبيب, انتظارا لسماع الإجابة عن السؤال الذي لم أنطق به, سحبني من يدي الملعون, القاني مع تحية المساء أمام باب العيادة.
فضلت أن أسرع في تمزيق تذكرة الدواء, اندفعت نحو المقهى القديم الذي حرمت نفسي من الجلوس به, وطلبت الفنجان الدوبل من القهوة التركي, وافتعلت انشغالي بالجريدة المسائية, وأنا أتجاهل رفيق المنضدة الذي أعرفه جيدا.
رمقني الرجل وأظن يقينا أنه يسبني, ويسب الأيام والعشرة التي كانت بيننا يوما.. فتحسست قفاي وأحكمت زرار قميصي العلوي الذي نادرا ما أفعل.. وأمضيت بقية الوقت أعبث في الندبة البارزة في منطقة شاربي والخالية من الحياة, أعنى من الشعر الذي لم يعد أسودا, مزقته الشيبة.
لولا رغبتي في تحطيم حاجز ما مع صديقي القديم, ما كنت سألته على حين غفلة منه: "هل حقا ما أخبرني به الطبيب؟".. وجل الرجل وانتابته حالة من الشك في قواي العقلية, والا لماذا ظل يرفع في حاجبيه حتى لامستا فروة رأسة وهو صامت!
لم يشأ أن بتابع احتساء بقية القهوة في فنجانه, ولم يشأ أن يحاسب النادل, أسرع الخطى إلى الخارج, غرب عنى وهو يخفى بسمة خبيثة, فشعرت بآلام جديدة.. في أسناني هذه المرة, في النابين, التى ظننت أنها الشيء الوحيد في العالم الذي لم ينل منى.